الأسباب والمسببات في القرآن

الأسباب والمسببات في القرآن

من المسائل التي يُثار حولها الجدل ما يخص الأسباب والمسببات في القرآن، فكل شيء في هذا الكون يسير بمقدار، فلا خلاف بين القدر والأخذ بالأسباب، فالأسباب مقدرة كما المسببات، وإن كان الاعتقاد السائد أن المسببات تحدث دون أسبابها أو ما يُمهد لها، فذلك اعتقاد باطل ولا يتماشى مع حقيقة القدر، ومن ثم كان لزاماً علينا الأخذ بالأسباب لأنها مقدرة أحسن تقديرا، وهذا ما فعله سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-، فقد آمن بالقضاء والقدر -خيره وشره-، فإن كان قدر الله حق نافذ، فذلك لأنه قائم على السنن التي ثبت عليها هذا الكون.

 

ولكن ما معنى الأسباب والمسببات في القرآن؟ وما هو السبب؟ وما علاقته بالمسبب؟ وما الفرق بينهما؟ هذا ما سوف نوضحه بمزيد من الشرح في هذا المقال مع استعراض نبذة عن قانون السببية في القرآن الكريم وأنواع الأسباب.

 

معنى الأسباب والمسببات في القرآن والفرق بينهما

السبب: هو الوسيلة أو الطريق أو كل ما يتوصل به المرء إلى الشيء المراد أو المطلوب. والسبب هو الحبل وما يتوصل به إلى غيره، وقد ورد في القرآن الكريم في تسعة مواضع، فجاء مفرداً في خمسة مواضع، وجاء بصيغة الجمع في أربعة مواضع، وجاء في جميعها بصيغة الاسم.

 

وقد وردت كلمة السبب في القرآن وفقاً للسياق على خمس معانٍ:

 

  • (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا). والسبب هنا يعني العلم.
  • (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا). جاء بمعنى الطريق.
  • (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ). بمعنى الحبل.
  • (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) (أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ) الأسباب تعني أبواب السماء ومسالكها.
  • (إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ). المقصود بها المودة.

 

أنواع الأسباب

الأسباب والمسببات في القرآن لها أنواع قد استدل عليها الفقهاء والعلماء من آيات الذكر الحكيم، والأسباب في القرآن الكريم تنقسم إلى نوعين:

 

1- أسباب مادية

مثل: الماء، فقد جعله الله سبباً في إخراج النباتات والثمرات، كما أنها سبباً في رزق الإنسان، قال تعالى: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ). [إبراهيم: 32]

 

2- أسباب معنوية

مثل: التقوى، فقد جعلها الله سبباً ليفصل بين المرء وما يخشاه، فينجو بنفسه، قال تعالى: (إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا). [الأنفال: 29]

 

المُسبب: وهو النتائج الحاصلة عند الأخذ بها، مثل: الأكل والشبع أو المذاكرة والنجاح، فالأكل سبب، والشبع حاصل عنه، أي مسبب. والمذاكرة سبب، والنجاح نتيجة لها، أي مُسبب.

 

ومن ثم فإن الفرق بين الأسباب والمسببات، أن الأسباب هي الوسائل التي توصل إلى المطلوب، بينما المسببات هي النتائج الحاصلة عند الأخذ بالأسباب، أما الله -عز وجل- هو مسبب الأسباب: أي ترجع لحكمته، فتكون الأسباب مفضية إلى مسبباتها.

 

وقال الشيخ ابن تيمية في ذلك:

 

“هو سبحانه الحي الفعال لما يشاء العليم القدير الحكيم، الخبير الرحيم الودود، لا إله إلا هو، وكل ما سواه فقير إليه، وهو غني عما سواه، لا يكمل بغيره، ولا يحتاج إلى سواه، ولا يستعين بغيره في فعل، ولا يبلغ العباد نفعه فينفعوه، ولا ضره فيضروه، بل هو خالق الأسباب والمسببات، وهو الذي يلهم عبده الدعاء، ثم يجيبه وييسر عليه العمل، ثم يثيبه ويلهمه التوبة، ويحبه ويفرح بتوبته، وهو الذي استعمل المؤمنين فيما يرضيه، ورضي عنهم، فلم يحتج في فعله لما يحبه ويرضاه إلى سواه، بل هو الذي خلق حركات العباد التي يحبها ويرضاها، وهو الذي خلق ما لا يحبه ولا يرضاه من أعمالهم، لما له في ذلك من الحكمة التي يحبها ويرضاها (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون) [القصص: 70] فلا إله إلا هو (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) [الأنبياء: 22]”.

 

آيات الأخذ بالأسباب في القرآن

إن الأخذ بالأسباب عبادة ربانية، وسنة كونية، وعلينا الأخذ بها والعمل بموجبها دون فصلها عن الله -عز وجل- فعند الأخذ بها يجب أن نكون متيقنين بالله وذلك بألا نعتقد أن هذه الأسباب تؤثر بذاتها بشكل منفصل عن الحكمة الربانية، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). [النحل: 97]

 

فهذا الدين هو دين التوكل وليس التواكل، دين العمل وليس الكسل، وهذا ما طبقه الأنبياء والصالحون، ومن ثم فإن الأسباب والمسببات في القرآن يكون الأخذ بها بمثابة سنة كونية وعبادة واجبة، وهذا ما يتبين من خلال الآيات التالية:

 

(فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ). [المؤمنون: 27]

 

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ). [هود: 38]

 

(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَيـٰهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ). [هود: 41]

 

(فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ). [الشعراء: 63]

 

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً). [الكهف: 84]

 

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا). [مريم: 25]

 

وقال سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-: “لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَىٰ اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا”. [صحيح: رواه عمر بن الخطاب] فلا بد لنا عند الذهاب أول النهار وحتى نرجع آخره أن نتوكل على الله ونأخذ بالأسباب.

 

السببية في القرآن الكريم

لا يمكن أن يحدث شيء عن طريق المصادفة، فكل شيء يحدث في الوجود يحدث لسبب، وهذا السبب يفدي لنتيجة حاصلة عنه سواء كان الأمر مرتبطاً بالإنسان أو الحيوان أو الظواهر الفلكية والحوادث الطبيعية، ومن ثم فإن السببية تعني ربط الأسباب بالمسببات، فلا تكون منفصلة عنها بل حاصلة منها، والسببية قانون عام وشامل، وقد ذكر في كتاب الله -كما ذكرنا سالفاً- ومنه الأسباب المادية والأسباب المعنوية، والله هو مسبب هذه الأسباب

 

وقد قال الشيخ ابن تيمية في مسألة الأسباب والمسببات في القرآن: “فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات”

 

قصص عن الأخذ بالأسباب

تعددت القصص في القرآن الكريم لتؤكد أهمية الأخذ بالأسباب باعتباره عبادة ربانية طبقها الأنبياء كمنهج يتم العمل بمقتضاه، ومن القصص التي نستدل بها على مسألة الأسباب والمسببات في القرآن:

 

1- ففي قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- قال يوسف لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف: 4] فقال له نبي الله يعقوب -عليه السلام- (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا) [يوسف: 5] وهذ المنهج التربوي يعد نبراساً لنتأمله ونعمل به، فقد نصح ابنه بأن يأخذ بالأسباب إن قص على أخوته ما رأى، فيكيدوا له كيدا، فكان الاستعداد من نبي الله يعقوب مبكراً لهذا الأمر لأنه فطن وتوقع ما سوف يفعله أخوته به لأن الأعلم بطبائعهم ونواياهم.

 

2- وفي قصة أصحاب الكهف يتبدى لنا أهمية الأخذ بالأسباب عند قال الله -تعالى- على لسانهم بعدما استيقظوا من نومتهم: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) [الكهف: 19] ومن ثم فقد كانوا حريصين كل الحرص على عدم إشعار الآخرين بوجودهم، فإن لم يأخذوا بالأسباب، فقد يفضح أمرهم ويتم تعذيبهم، فقد قال الله على لسانهم: (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا). [الكهف: 20]

 

3- ومن مظاهر الأخذ بالأسباب في القرآن الكريم، قصة الرجل المؤمن الذي كتم إيمانه في قلبه كيلا يقع في مكر الماكرين أو يتعرض لشرهم، قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ). [غافر: 28]

 

4- كما تؤكد بعض القصص أهمية الأخذ بالأسباب عند التوكل، فإن توكل العبد على الله دون الأخذ بالأسباب، فذلك لا يعد توكلاً وإنما تواكلًا، والفرق بينهما عظيم، لذلك قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) [الأنفال: 60] فإن توكلوا على الله دون أن يأخذوا بالأسباب المتمثلة في الإعداد الجيد والمؤن والعداد، فلن يكون النصر حليفهم.

 

ولا شك أن الأسباب والمسببات في القرآن من العبادات الواجبة على كل مسلم باعتبارها سنة كونية آمن بها الأنبياء من قبل وعملوا بها، وفي حال كان لديك الرغبة في الإلمام بكافة العلوم الإسلامية والدراسات القرآنية بإمعان شديد لكي تصقل نفسك بالمعارف، فليس عليك سوى الإطلاع والانضمام إلى أكاديمية أكادمية وحي يوحى للدراسات الاسلامية وهي من الأكاديميات الرائدة التي تنمي مدارك الإنسان وتزيد من معارفه في أحكام التلاوة والتجويد، وتعليم اللغة العربية وشرح قصص الأولين، وتوضيح منهج السلف الصالح.

 

المصادر والمراجع

islamonline

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart